عبد اللطيف أوفقير أصغر سجين سياسي في العالم الطفل الذي هزم جبروت سنوات الجمر والرصاص

Publié le par okdriss

 

oufkir-abdellatif.JPG

 

 

 

نفخ الأمل وروح المقاومة في والدته وشقيقه وأخواته الذين أراد الملك إقبارهم أحياءا 

رغم أن الطفل كان ضحية، لم يستسلم، وبطريقته ظل يحاول قلب الطاولة على جلاديه بوسائل بدائية فطرية

إدريس حصار:" لو كنت مكانك، يا حاجة، لانتحرت مع أولادي بدلا من معاناة ما ينتظركم"

جبروت ملك يهابه الجميع كسره طفل أقبر حيا

كيف أصبحت تساؤلات الطفل تدمي قلوب الكبار وتمزقها

عبد اللطيف، الطفل الذي كبر وشاب رهن الاحتجاز التعسفي

كان أصغرهم سنا، لكن دوره كان حيويا، إنه شرط نجاح عملية الهروب

f ouf

 

 

تقديم 

 

لم يعرف طوال أغلب حياته إلا السجن، حياته كانت عبارة عن سلسلة متواصلة من العذاب، منذ أن بدأ يعي مدلول الكلمات


عبد اللطيف، نجل الجنرال محمد أوفقير الأصغر، أصغر سجين سياسي في العالم، تمكن من نفخ الأمل وروح المقاومة في والدته وأخيه وأخواته، الذين سعى الملك الحسن الثاني إلى إقبارهم أحياءا كما فعل مع ضيوف "آكل البشر"، تازمامارت


خلال ما يقارب من العشرين سنة، من مرحلة تعذيب وتنكيل إلى أخرى، صمد الطفل عبد اللطيف بفضل تماسك العائلة وتلاحم إخوته وأمه، في وجه الويلات والتحديات، وبفعل اتحادهم ومحبتهم المتبادلة رغم تفريقهم وتطبيق عليهم الغزلة بجحيم "بير جديد" إحدى عشرة سنة


رغم أن الطفل عبد اللطيف كان ضحية، لم يستسلم، وبطريقته ظل يحاول قلب الطاولة على جلاديه بوسائل بدائية فطرية.. غريزة البقاء الطفولي كانت في أوجها.. ظلت تملي عليه أفكار وتصرفات كي يصمد ويستمر، من حيث لا يدري، في مواجهة جبروت الملك


لم يكن الطفل عبد اللطيف، يعي ما يجري حوله عندما كان ببيت عائلته محاصرا بمعية والدته وأشقائه ممنوعين من تجاوز عتبة فيلا شارع الأميرات التي دكّت فترة بعد إقبارهم في غياهب المعتقلات السرية النائية. آنذاك كان الدكتور محمد بنهيمة، وزير الداخلية، قد عمل على إبلاغ فاطمة الشنا، أرملة أوفقير، بواسطة الدكتور بنتلياس الذي كان يتلقى العلاج عنده، بقلقه الشديد بشأن المصير الذي ينتظرها، هي وأبنائها، إذا كان قد علم لحظتئذ أن الملك الحسن الثاني استخبر كثيرا عنها وعن أطفالها وأمر أجهزته الإستخباراته (سيما جهازه الخاص SSS  ) بتقديم له وصفا ضافيا دقيقا وشاملا عن الأماكن الصالحة لاعتقالهم واحتجازهم، سيما تلك المتواجدة بأقصى جنوب المملكة


آنذاك كان البعض قد نصح فاطمة الشنا بالعمل على اللجوء إلى سفارة غربية رفقة أبنائها تحسبا لما قد يقدم عليه الملك الغاضب من زوجها، إلا أنها أبت الخضوع لهذا الطلب، معتبرة أن لا ذنب لها ولا لأولادها فيما جرى


ليلة انتهاء العدة الشرعية ونهاية الحداد (160 يوما)، حسب ما تنص عليه التعاليم الإسلامية ـ وقد تزامن ذلك مع نهاية سنة 1972 ـ تم تبليغ أرملة الجنرال أوفقير، بواسطة إدريس حصار مدير الأمن الوطني وقتئذ، بقرار الحسن الثاني بإبعاد عائلتها عن العاصمة الرباط إلى تزنيت لدواعي أمنية محضة


حال مغادرة أسرة أوفقير لفيلا شارع الأميرات، فُتح بيتها للنهب والسطو والتخريب. وبعد بضع سنوات أزيلت بناياته بالجرافات بأمر من الجنرال حفيظ العلوي


أُمهلت عائلة أوفقير ساعتين لجمع حوائج أفرادها.. سألت فاطمة الشنا مدير الأمن الوطني وهي تحمل طفلها الصغير، عبد اللطيف، عن معنى ما حدث وما سيحدث، فكان رده توا، إذ قال بوقاحة :" لو كنت مكانك، يا حاجة، لانتحرت مع أولادي بدلا من معاناة ما ينتظركم..." ثم خرج مسرعا.

قبل هذا بأيام كان الملك الحسن الثاني قد استدعى المقدم بوعزة ليلا إلى قصر الصخيرات.. اجتمع به شخصيا لتكليفه بفاطمة أوفقير وأبنائها بجناح بثكنة أسا، وأوكل إليه هذه المهمة شخصيا بعد تنبيهه للخطر الذي تشكله هذه العائلة أما وأطفالا أصغرهم كان لا يتجاوز بعد عمره السنتين والنصف


سجن الملك الحسن الثاني عائلة أوفقير، انتقاما من ربها الجنرال محمد أوفقير، بعد فشل انقلاب 16 غشت 1972، وبعد أن أعدم نفس اليوم بخمس رصاصات استقرت في جسده، في أماكن مختلفة ومتباعدة


يومها قرر الملك الحسن الثاني، إنزال أشنع العقوبات على ذرية الجنرال المتمرد. فذاقت أسرة أوفقير، دون ذنب اقترفته، أقسى ألوان العذاب والتنكيل في مطامير الملك التي نعتتها فاطمة الشنا بـ "حدائق الملك"، يومها كان عبد اللطيف طفلا صغيرا لا يعي ما يجري حوله. وفي هذا الصدد يقول أحد الحقوقيين المرموقين :" يستحق هذا الطفل اعتذار الشعب المغربي الذي سكت على هذا الظلم مغلوبا على أمره، رغم فوات الأوان"


عبد اللطيف، طفل قهر المستحيل، تمكن من الفرار من إحدى "حدائق الحسن الثاني"، الأكثر حراسة وسرية بالمملكة.. ساعد شقيقه وأخواته على إعداد أكبر مخطط للإفلات من مخالب الجهاز الخاص بالملك SSS   والمخابرات والدرك والجيش وكل المنظومة الأمنية .. كان له شرف كشف "فضيحة" إقبار طفل حي للصحافة الدولية.. وبذلك أنقذ عائلته من الموت واضطر الملك حينها للخضوع.. جبروت ملك قوي يهابه الجميع كسّره طفل أقبره العاهل وعمره لا يتجاوز سنتين ونصف.. لقد هزمه لما بلغ ربيعه 18 إذ ساهم في حلول الربيع في "حدائق" الحسن الثاني الخريفية المظلمة


تكوّن لدى عبد اللطيف نقيض من المشاعر حيال حبّ الملك الحسن الثاني، الأب الحنون الذي كان يداعب شعره بفيلا شارع الأميرات، كلما حل بها على حين غرة، وكرهه ومقته للتعسف والظلم اللذين أنزلهما على عائلته دون شفقة ولا رحمة.. ظل الطفل عبد اللطيف يتساءل كيف طاوعه قلبه (الملك) على ارتكاب هذه الجريمة بحقه، إذ قذفه ما يناهز عشرون عاما في أتون "قبور" هندست لاحتضان موتى ـ أحياء


هل كان الطفل عبد اللطيف ضحية تقليد راسخ ومعتمد من قبل القصر الملكي.. إنه السجن الذي يعتبر أقصى العقاب الملكي للاقتصاص من أي معارض، يتم إخفاؤه عن الأنظار كي يُمحى اسمه ويزول من الأذهان، ويُترك كي يموت بمفرده موتا بطيئا. إنه أشبه ما يكون بالدفن الحي.

إن كان الطفل عبد اللطيف أوفقير قد نجا من الموت الذي كان محتما، فإنه صار على هامش الحياة بعد أن سلخوه عن كل ما يمت بصلة إلى الواقع المعيش. وكم كان هذا الانسلاخ قاسيا ومريرا بالنسبة لطفل شاب خلف القضبان الحديدة في قبور هُيأت لأحياء ـ أموات، أو أموات ـ أحياء، فالأمر سيان. فما ذنب الصغار حتى يؤاخذوا بجريمة الكبار؟


سؤال ظل مطروحا ينتظر الجواب منذ أكثر من 35 سنة. هذا الملف يرصد محطات ولحظات من حياة طفل هزم جبروت ملك

 

oufkir007.JPGالجنرال محمد أوفقير

 

  "آسا" بداية المحنة

 

 

في أول الأمر نقلت عائلة أوفقير إلى ثكنة بآسا، حيث بقيت محتجزة من 25 دجنبر 1972 إلى 8 نونبر 1973، علما أنه رحلت عن هذه القرية في غضون 1973 خوفا من مخطط تهريبها من طرف "كومندو" من البوليساريو حسب ما قيل


عندما رحلت العائلة إلى آسا كان الطفل عبد اللطيف يقوم رفقة شقيقه رؤوف وإخوتيه ماريا وسكينة بجولات بالقرية الصغيرة وواحاتها. كان السكان يتعاطفون معهم إلى حد كبير، ودأب أبناء أوفقير على العودة إلى "سجنهم" محملين بالحناء والتمر وبعض الهدايا الممنوحة لهم من طرف الأهالي


عندما علم سكان قرية آسا أن الزوار الصغار يأتون كل يوم في ساعة محددة مراقبين عن قرب من طرف حراس، أصبحوا يحضرون لهم الشاي والخبز الطازج وبعض الحلوى حسب إمكانياتهم المتواضعة


كانت تلك الساعات مهمة جدا بالنسبة للطفل الصغير عبد اللطيف ـ الذي لم يكن سنه قد بلغ 3 سنوات بعد ـ وأخوتيه بخصوص الارتباط بالحياة العادية. كان كل شيء يراه عبد اللطيف الصغير يعتبره لعبة يتلهى بها. وفي أحد الأيام أهدته إحدى الصحراويات من سكان آسا فرخ دجاج، ساعده على تمضية الوقت بسجن العائلة بالثكنة


أحيانا كان عبد اللطيف الصغير يشعر بالملل، وفي أحد الأيام قال لشقيقته الكبرى، مليكة، بلكنة طفولية وهو يبلع الكثير من الحروف وأحيانا الكلمات:" "أنا عندما أكبر، سيصبح عندي منزلا، ولكن ليس كهذا المنزل هنا، ستكون أرضه مغطاة بـ "الموكيط"، وليس بالرمل والغبار


لكن مع حلول مايو 1973، عندما أعادوا الأسرة إلى سجنها بثكنة آسا، مُنع الطفل عبد اللطيف وإخوته من الجولة بالقرية، بعد صدور أوامر من الرباط بعدم السماح للأم وأبنائها من مغادرة السجن مهما يكن الأمر


 

أكدز: 28 أبريل 30 مايو 1973 محطة أخرى للمحن

 

 

تم ترحيل أسرة أوفقير على حين غرة في نهاية أبريل 1973 إلى "أكدز" وهي قرية تقع بين زاكورة وورزازات، وذلك لأن سكان آسا بدأوا يتساءلون عن وجود أطفال لم يبلغوا الحلم  بقلب الثكنة، سيما بعد أن كشفوا هويتهم شرع بعض الأهالي يستنكرون هذه المعاملة


وُضع الطفل عبد اللطيف رفقة عائلته في شاحنة طُليت نوافذها بالقطران، ودامت الرحلة 18 ساعة متتالية، دون توقف، وكان الطفل يقضي حاجته بعلبة "نيدو" وسط إخوته وتحت أنظارهم


حُبس عبد اللطيف رفقة أسرته بإحدى الدور بأكدز شهرا كاملا دون أن يتمكن من رؤية السماء والنور الطبيعي. آنذاك كثرت  أسئلته الغريبة وتناسلت، إذ اختلطت عليه الأصوات التي كان يسمعها دون القدرة على معاينة مصدرها أو أصحابها.. خرير المياه في النبع، همسات الريح، حفيف الأشجار، صرخات الأطفال وصياحهم وهم يلعبون ويمرحون، ضحكات النساء ونباح الكلاب.. آنذاك أصبحت تساؤلاته واستفساراته الطفولية البريئة تدمي قلوب الكبار من عائلته وتمزقها إربا إربا


 

تازناخت: 8 نونبر 1973 - 26 فبراير 1977

 

 

بتازناخت احتفل الطفل عبد اللطيف ببلوغه سن السابعة، وهناك تعرف إلى أحد رجال جهاز صاحب الجلالة الخاص (SSS  )، الكولونيل بنعيش، وهو الذي قلب حياة عائلة أوفقير بدء من سجن تازناخت رأسا على عقب



كانت مهمته  أن يجعل حياتهم جحيما مستمرا. فهو الذي أعطى الأمر بذبح الحمامات التي كان الطفل عبد اللطيف يتسلى بها ويقضي كافة وقته في العناية بها والتواصل معها، والكولونيل بنعيش هو الذي حرم كذلك أسرة أوفقير من الغذاء، رغم أن أفرادها نادرا جدا ما كانوا يرونه، لقد كانوا يعرفون قدومه، من حين لآخر، دون سابق إنذار عندما يسمعون هدير الطائرة المروحية أو يفهمون ذلك من حركة الحراس و"المخازنية" التي تصبح غير معتادة على حين غرة.


والكولونيل بنعيش، هذا هو شقيق بنعيش الطبيب الخاص للملك الحسن الثاني، الذي لقي حتفه في الصخيرات يوم هجوم تلاميذ مدرسة أهرمومو على القصر الملكي في الانقلاب العسكري الأول

 

565px-malika_oufkir_2006.jpg

 زوجة الجنرال فاطمة

 

 

  "بير جديد" آخر محطة المحن

26 فبراير 1977 ـ 19 أبريل 1987 

 

 

عندما أمر الحراس فاطمة الشنا وأبنائها بجمع متاعهم الشخصي، انشغل الطفل عبد اللطيف في الإمساك بالحمامات، ضحكاته تجلجل مدوية، يخال نفسه على موعد مع رحلة للعب والتسلية، عكس الكبار الذين تملكهم الخوف والقلق


دقت ساعة الصفر.. أصرّ الحراس على تفريق العائلة، كل اثنين في عربة مصفحة على حدة.. دامت الرحلة أربعة وعشرين ساعة


.. في إحدى الأيام بـ "بير جديد" تعذر على الطفل عبد اللطيف فهم مشهد حقد      ومقت مروع..

ككل سنة، في ذكرى ميلاد الملك الراحل الحسن الثاني، دأب أطفال أوفقير على إرسال بطاقات تهنئة إلى العاهل يطلبون فيها منه العفو.. وفي تلك السنة لم يتأخر رد الملك طويلا.. جمع رئيس المعتقل العائلة في زنزانة واحدة على غير المعتاد.. تناهى إلى أسماعهم ضجيج حطام وتكسير.. تم أخرجوهم لمعاينة المشهد.. جمعوا الكتب المدرسية وألبومات الصور ولعب الطفل عبد اللطيف وبعض ما تبقى من المؤونة القليلة والملابس وأضرموا النار في الكومة مما أحدث للصغار، سيما عبد اللطيف، صدمة نفسية غير مسبوقة.  لم يتوقف الأمر عند هذا الحد.. إذ في الصباح الموالي عاد الحراس مجددا.. أخرجوا العائلة إلى الباحة وقال لهم رئيسهم إنه يعرف إلى أية درجة كان الصغار، وعلى رأسهم عبد اللطيف، متعلقين بالحمامات.. وأضاف.. إن هذه الحمامات إنما خلقت لتؤكل، لذلك تقرر كل يوم ذبح اثنتين منها


بالرغم من دموع الطفل عبد اللطيف وإخوته، نفذ الحراس وعدهم ووعيدهم.. وعلى مدى عدة أيام، كانوا يعودون كل صباح بحمامتين مذبوحتين.. وبعد فترة قصيرة حاول الطفل عبد اللطيف الانتحار.. كان قد ابتلع كمية لا بأس بها من الأقراص الطبية ("فاليوم"  و"موغادون")..

لقد ضاق عبد اللطيف ذرعا بكل المرارة التي تنضح من محادثات الكبار وحركاتهم وسكناتهم.. منذ نعومة أظافره لم يعرف عالما آخر إلا الجدران والقضبان.. لقد اعتقد الطفل عبد اللطيف، ببراءته الطفولية، أنه بموته سيخرج عائلته من الجحيم ويضع حدا لمعاناتها وأحزانها


.. كان عبد اللطيف بجوار والدته تحاول تخفيف أجواء الضيق التي بدأت تخنقه وعائلته في طريقها إلى المجهول.. جميع أفراد الأسرة يتساءلون: إلى أين نحن ذاهبون؟


تسير بهم السيارة في عتمة الليل، وعبد اللطيف يتقلب في حجر أمه جراء ارتجاج المركبة الأمريكية السائرة على طريق غير معبدة.. ويحضر السؤال ثانية: إلى أين نحن ذاهبون؟ ويتزايد قلقهم كلما لاحظ أحد أفراد العائلة أن الطريق مزروع برجال الدرك بالبوادي ورجال الأمن بالمدن التي يمرون بها


 

لا سبيل إلاّ الفرار

 

 

عند الإقرار بالهروب، كان عبد اللطيف وعائلته محتجزين بمعتقل سري بـ "بير جديد" بمزرعة لإحدى المعمرين الفرنسيين في عهد الحماية، "مزرعة بيير مادور" نسبة لمالكها الأصلي


ابتداء من يناير 1987 بدأ الشاب عبد اللطيف يستعد للفرار من الجحيم بتمرين جسده النحيل الذي ترعرع في السجن، خلف الأسوار ووراء القضبان الحديدية السميكة.. وربما قد يكون أصغر أبناء أوفقير من الحالات النادرة في تاريخ البشرية.. الطفل الذي كبر وشاب رهن الاحتجاز التعسفي، وهي جريمة لم تكن لتتصورها كافة الشرائع البشرية والقوانين الوضعية على الإطلاق على امتداد التاريخ البشري، وبالتالي لم يحددوا عقوبة بخصوصها


.. في ظلمات الزنزانة فرض عبد اللطيف على نفسه تداريب رياضية منتظمة وخصص تمارين "يوكا" للتركيز بمساعدة نصائح والدته للاستعداد ذهنيا ليوم الخلاص، ومن ذلك الحين لم يعد ينشغل إلا بشيء واحد، الهروب من الجحيم


عقد عبد اللطيف العزم على المقامرة بكل شيء بعد أن قرر إخوته الفرار.. لم يبق أمامهم إلا الهرب أو الموت للخلاص.. أي المجازفة بحياتهم كمخرج أخير بعد أن جربوا كل الإمكانيات الأخرى: طلب العفو، الإضراب عن الطعام، الانتحار


لم تبق أمام الشاب عبد اللطيف إلا المجازفة بعد أن أيقن أن حياته – وهو الطفل البريء الذي أصبح شابا في فضاءات الحجز التعسفي – لا تساوي "بصلة" في نظر الملك. لذلك اختار رفقة إخوته المخاطرة بحياتهم توقا لضمان العيش، وبدا لهم أنه خير لهم أن يموتوا وهم يكافحون من أن ينتهوا في الزنازين معوزين ومشلولين


حسب روايات شقيقيه، رؤوف ومليكة، كانت مجرد فكرة إمكانية الفرار تنعش عبد اللطيف وتثيره وتحييه، وهو الشاب الذي غادر عالم الحرية وهو طفل لم يكن يتجاوز سنه ثلاث سنوات


فلم يكن يهم الشاب – الذي لم يعاين عالم الحرية منذ أكثر من 15 سنة يومئذ – يهمه كثيرا إن بلغ هدفه في معانقة الحرية، لتذوق طعمها لأول مرة في حياته، أم لا، حسبه أن يخرج من الجمود والسلبية التي تجعله يشعر بأن عقابه دون اقتراف أي ذنب، أكثر فظاعة وهولا


في تلك الفترة تقول والدته، فاطمة الشنا، لم يعد طفلها – الذي أضحى شابا – يحس بالألم ولا الجوع ولا البرد ولا التعب كسائر البشر


فمنذ وصول عائلة أوفقير إلى معتقل "بير الجديد" لم يتوقف عبد اللطيف عن التفكير لحظة واحدة بالهرب.. وقد ساهمت اكتشافاته في تسهيل الإعداد لعملية الهروب الكبرى


انتزع القشرة التي كانت تغطي حائط الزنزانة، وبعد عدة تجارب تمكن من التوصل إلى عجين باستعمال مسحوق "التيد" والطحين وبعض الاسمنت والرماد والتراب، استعمل بنجاح في سد الثقب اللازمة لإعداد عملية الهروب، منذ أن بدأ الحفر في 7 فبراير 1987


مع بداية الحفر كان عبد اللطيف يتسلق كتفي أمه كل ليلة لينزلق في حجر مؤدي إلى غرفة مهجورة، ويبدأ في تسلم الحجارات المستخلصة من الحفر لترتيبها بجزء من الفضاء المهجور حتى لا يظهر لها أثر. أما التراب المستخلص من الحفر، فقد غربل ووضع في أكياس كانت تستعمل لملء البئر المحفور لتسهيل الاستمرار في الحفر في اليوم الموالي ليلا بعد إطفاء الأنوار. كما أن الأكياس تسهل عملية الفتح والإغلاق وتخفف من الضجيج وتلغي الصدى


لقد ساهم عبد اللطيف في إعداد عملية الهروب من معتقل "بير جديد"، إذ ساعد أخاه، رؤوف، وإخوته البنات في حفر النفق وانجاز الحفر بين الزنازن قصد التنقل من واحدة لأخرى


قام عبد اللطيف بالكثير من المهام، منها المساهمة في فك العزلة بين أفراد العائلة. وعمل ليال طويلة رفقة والدته لحفر فجوة تواصل مع شقيقاته


بعد إنجاز جزء من الحفر صادف عبد اللطيف أنبوب معدني انتصب وسط الفجوة، وكان عليه رفقة شقيقاته إزاحته للتمكن من المرور.. أرسل له شقيقه رؤوف، بواسطة حليمة وعاشوراء المكلفتين بإمداد العائلة بالطعام وحصة الماء اليومية، "سلكا" رفيعا من النوع المستعمل في كابح الدراجة ("كابل ديال لفران")، وبفضله نجح عبد اللطيف وشقيقاته أن يحز جزا عميقا في الأنبوب.. أمسكوا بطرفي السلك واستخدموه كمنشار لقطع الأنبوب الصدئ بتمريره ذهابا وإيابا بحركة سريعة وإيقاع متواصل. ولتجنب الحرارة بفعل الاحتكاك والكفيلة بتمزيق السلك، دهن هذا الأخير بالشمع وبرد باستمرار بصب الماء عليه


بعد عمل مضني ومتقطع دام أكثر من 30 ساعة بتر الأنبوب المعدني الذي كان يعترض المرور من زنزانة عبد اللطيف وأمه إلى زنزانة شقيقاته الثلاثة


يقال أن الحاجة أم الاختراع.. ومع مرور فترة احتجازه دون أن يعلم شيئا عن العالم المحسوس، إلا عبر ما جادت به حكايات أشقائه ووالدته، تألق عبد اللطيف – الذي قضى طفولته ومراهقته وجزء غير يسير من مرحة شبابه في المعتقل – في تطوير مجموعة من الحيل و"التقنيات" لمساعدة شقيقه وأخواته في الإعداد لعملية الفرار


كان عبد اللطيف نحيلا جدا بفعل ترعرعه في ظلمات الزنازن ويفعل وجبات طعام لا تغني ولا تسمن من جوع منذ أن كان طفلا في مرحلة النمو، وبذلك ظل "عوده" "مهترئا" وبنيته هزيلة رغم أن سنه تجاوز وقتئذ 16، وأتاح له جسمه النحيل أن يندس في الحيز الوحيد لجحر الزاوية المرفوعة من جدار زنزانته بعد الالتفاف على نفسه في مساحة ضيقة جدا ليطل على غرفة "تحت أرضية" مهجورة للتخلص من التراب الناتج عن حفر نفق الخلاص


كما كان عبد اللطيف، الوحيد من أفراد العائلة، الذي يتمكن من المرور في النفق الرابط بين زنزانته رفقة والدته وزنزانة شقيقاته نظرا لضيق الحيز


كان عبد اللطيف يضطر لسحب كل ملابسه، ما عدا التبان ("السليب")، ليتمكن من العبور إلى زنزانة البنات، وحين كانت شقيقاته يسحبنه من الفجوة نحوهن، كان غالبا ما تنخدش كتفيه وخاصرتيه.. يكز أسنانه من الألم ويئن أنينا مخنوقا حتى لا تسمعه أمه أو البنات. وبشهادة جميع أفراد عائلة "أوفقير"، كان الهروب من قبيل المستحيلات لولا مساهمة عبد اللطيف، إذ كان الوحيد الذي يمكنه التخلص من أحجار وتراب الحفر.. كان أصغرهم سنا، لكن دوره كان حيويا، إنه شرط نجاح العملية، وقد قيل إنه غالبا ما تكون أكبر المشاريع وأكثرها جرأة رهينة بأبسط المشاركين فيها، لا يكاد ينتبه لهم أحد.. هذه كانت حالة عبد اللطيف في إعداد مخطط الخلاص من الجحيم


كان الأشقاء أوفقير في إنجاز المرحلة الأخيرة للهروب وحفر آخر شطر للنفق المؤدي إلى الحرية.. حفروا ليل نهار لأن جهاز "SSS  " أمر الحراس بإضافة برج جديد للمراقبة فوق زنزانة البنات التي كان يوجد بها مدخل النفق.. كانوا مضطرين للحفر دون انقطاع في سباق ضد الساعة.. تناوب الأشقاء في الحفر.. وفي كل زنزانة راقب أحد من تحت الباب المصفح قدوم الحراس.. مضت الدقائق ثقيلة وخانقة.. عندما حل الشفق وانبسط الليل، وما إن انطفأت الأنوار مر رؤوف عبر المعابر المحفورة بين الزنازن إلى زنزانة البنات وقد ؟؟ عبد اللطيف من زنزانته واستأنف الحفر من جديد لإزاحة المتر المكعب الأخير من التراب الذي يفصلهم عن الحرية شبرا شبرا وحفنة حفنة.. بغيط وهيجان اليأس، كان ينبغي الحفر عموديا وتلقى التراب على الوجه.. كان كل واحد من الأشقاء يحفر فوق رأسه مغمض العينين.. كان رؤوف يحفر، وعلى حين غرة انهالت كتلة من التراب فوقه.

على بعد أمتار معدودة من فتحة ثقب النجاة انهار التراب على رؤوف وطمرت كتلة منه جذعه

بالكامل، وإذ تثبتت ذراعاه على طول جسمه، ومع حسن الحظ أبقى حبل الإنذار في متناول يده الممدودة. لم يعد بوسعه التنفس وملأ التراب فمه وأنفه وكاد يختنق.. حاول الإمساك بالخيط الرفيع وسحبه.. آنذاك كان عبد اللطيف في الطرف الآخر من النفق.. لاحظ الخيط يتحرك بطريقة متفق عليها.. اندفع فورا في السرداب فجذب شقيقه من قدمه بصعوبة جمة نظرا لنحافته وضعف بنيته. عندما عجز عن تخليصه ركز عبد اللطيف عن إزاحة التراب عن وجه أخيه لتمكنيه من التنفس.. آنذاك همس إليه رؤوف، بين لقمتي طين ملأت فمه بأفضل طريقة لمساعدته.. استمرت عملية الإنقاذ أكثر من ربع ساعة.. في تلك الليلة من يوم الجمعة 17 إلى يوم السبت 18 أبريل 1987، فتح ثقب الحرية وتمكن عبد اللطيف من استنشاق أول نسمة من عالم لم يعرفه من قبل.. ثم عاد إلى إخوته يحمل ورقة خضراء من أوراق إحدى شجرات عالم الحرية


بعد خروجهم من النفق شعر الإخوة أوفقير أنهم يراوحون مكانهم ومازالوا يجهلون الوجهة الصحيحة التي تخرجهم من المأزق.. بإذعان واستسلام طلبت مليكة من شقيقها عبد اللطيف أن يتولى قيادتهم باعتباره مازال يرفل بالنقاء والطهارة ولم ير شيئا بعد من الدنيا، ولم يقترف بعد ذنبا


سار عبد اللطيف في المقدمة، وبعد مهلة نادى أخته: "مليكة.. تعالي.. إنه صلب.. لا أعرف ما هو؟".
كانت طريق أسفلت لم يسبق أن عاينها عن قرب من قبل.. إنها طريق النجاة التي ستقودهم إلى فضح سر الملك


قبل ذلك، بعد الخروج من النفق والزحف مليا وجد عبد اللطيف نفسه في حقل مزروع بالفول.. أدار وجهه لإلقاء أول نظرة على المعتقل من خارجه.. كان البدر يسلط ضوءه الباهت على أسواره.. كان المنظر فظيعا والشاب عبد اللطيف يعاين المكان الذي أقبر فيه، وحيث ذاق في أتونه حسرات العذاب والموت البطيء


قطف عبد اللطيف فولا وراح يأكله نيئا.. كان طعمه منعشا، لذيذا كطعم الحرية


سار عبد اللطيف مرفوع الرأس، متطلعا إلى النجوم مفتونا، مذهولا أحيانا، ارتسمت على محياه ابتسامة تنم عن سعادة بالغة.. فجأة توقف وقال "أعتقد أننا قد نجحنا.. أعتقد أنها نقطة بداية نهاية المحن.."


.. لأول مرة يركب فيها عبد اللطيف القطار وهو في 18 من عمره بعد النجاة من جحيم "بير جديد".. أصيب بالدوران وهو يرى عبد النافذة المناظر الطبيعية تمر بسرعة فائقة لم يسبق أن عاين مثيلها.


.. وقف القطار بمحطة طنجة.. نزل الأشقاء الأربعة.. ظل عبد اللطيف جامدا بحافة المقعد وهو يتشبث به بيديه مركزا نظره على الأرض.. ولما استفسره شقيقه عن الأمر أكد له أنه منذ نزوله من القطار لم يفارقه الإحساس المزعج بأن الأرض لا تزال تجري من تحت قدميه، ويتخيل له أنه يرى المناظر الطبيعية تتعاقب أمام ناظريه بينما هو جالس مع إخوته بمقعد المحطة


 

اكتشاف العالم والدنيا

 

كان على رؤوف التقرير في مَن مِن إخوته سيرافقونه في الفرار، كانت مليكة المؤهلة الأولى بدون منازع، وهناك كذلك عبد اللطيف أو سكينة أو ماريا لأن الأم ومريم وعاشوراء وحليمة مقصيات لأسباب صحية


تدخل عبد اللطيف قائلا: "إذا كان علينا أن نموت، أريد على الأقل أن أعرف ما هي البادية والهواء الطلق.."


نزل قوله هذا، على أشقائه، كصرخة نابعة من القلب، ولم تستطع العائلة برمتها إلا الخضوع لرغبة الطفل الذي أصبح شابا دون أن يذوق طعم الحرية


كما كانت على إحدى شقيقتيه، ماريا أو سكينة، أن تبقى بالمعتقل لتعيد إغلاق النفق وكذلك المعبر بين الزنازين ما دامت مريم واهنة جدا ولا تقوى على الإطلاع بهذه المهمة


تنازلت سكينة لماريا وقررت البقاء لإنجاح عملية فرار أشقائها. وما دام الهدف من الهروب هو اللجوء إلى إحدى السفارات الغربية فإن يوم السبت لم يكن مناسبا، لذلك أرجئت العملية إلى يوم الأحد لتقليص هامش الأخطار


عانق عبد اللطيف الحرية عبر ثقب النفق كأنه يولد من جديد. لم يكن إلى حدود تلك اللحظة يعي شيئا عن عالم الحرية الذي أختطف منه وسنه لم يبلغ بعد ثلاث سنوات. كان لقاؤه بالحياة في غاية القسوة والتعقيد، إذ كيف لشاب أقبر في الثالثة من عمره في ظروف حيوانية ووحشية أن يتلقى صدمة اكتشاف الحياة في الثامنة عشرة وفي ظروف فرار من بين مخالب جلادين غلاظ خائفين على حياتهم، ما داموا كانوا قد كلفوا من طرف الملك بما كلفوا به.


بقرية "بير جديد"، بعد الهروب، تجلت الحالة المأساوية التي مر بها عبد اللطيف.. كان يحدق في كل ما يمر أمامه باندهاش وانبهار غير معتاد


ففي أحد الأيام توسل عبد اللطيف لأخيه لكي يساعده على توسيع ثقب في كوة صغيرة من داخل زنزانته لتمكينه من رؤية السماء والعشب والخضرة.. بعد ساعتين من الجهد نجح رؤوف في إحداث ثقب في إطار الكوة الخشبي.. كان يكد ويجتهد لإحداثه بسرعة كلما لاحظ تلهف شقيقه الصغير.. لكن فجأة فُتح باب الزنزانة المصفح ثم انقض رئيس الحراس وزمرته على المكان.. توجه أحدهم إلى الثقب الذي لم يكن أوسع من قطر قلم واعتبر هذا الفعل من قبيل التخطيط للهروب.. في اليوم الموالي حضر الكولونيل بنعيش وأصدر أوامره للتفتيش الهمجي وتطبيق نظام العزل وإلغاء الفسحة وتشديد الحراسة إضافة إلى بناء سور جديد خارجي يحيط بالزنازين ونصب برج إضافي للمراقبة فوق زنزانة عبد اللطيف ووالدته


منذ الوهلة الأولى، بعد الخروج من النفق، اكتشف عبد اللطيف روائح جديدة لأول مرة لم يسبق له أن استنشقها، إذ ترعرع منذ كان طفلا على روائح مغايرة على امتداد أكثر من 15 سنة، روائح الغائط والموت. لكن في تلك اللحظة، قبيل فجر يوم الأحد، سرى إحساس جديد وغريب في جسده لم يعهده من قبل.. رائحة العشب المبلل بالردى، نداوة النسيم المحمل بشيء من الطراوة، عبق الحشائش، وشدى لطيف وحلو لبساتين.. صدمته روائح الحياة هذه، التي لم يسبق أن استمتع بها من قبل. وسببت له هذه الأحاسيس الحميمية والمبهجة نشوة غامرة، استعد لأن يموت على أن لا يحرم منها ثانية.

.. بالرباط، ترك رؤوف أخاه عبد اللطيف وشقيقتيه، مليكة وماريا، على درج محطة القطار وذهب لاقتناء تذاكر السفر إلى طنجة.. مر بجانب الكشك فبصر جريدة "إيكيب" الفرنسية الخاصة بالرياضة، لم يقاوم فهمّ بشرائها بمعية علبة "بيسكوي" لتقديمها لشقيقه الذي ظل يحلم في السجن بأن يصبح لاعب كرة قدم محترف دون أن تتاح له فرصة معاينة أية مباراة في حياته إلى حد ذلك الوقت


وهناك، بالعاصمة، استضاف طبيب الأشقاء الفارين معتبرا أنهم في محنة عائلية ليس إلاّ.. قدمت لهم الخادمة فطورا متنوعا.. ظل عبد اللطيف مشدوها ولم يكف على السؤال: ما هذا؟ وهذا ماذا؟.. ومن غرائب الصدف أن الملك محمد السادس عيّن ذلك الطبيب في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان نظرا لنزاهته وكفاءته، إنه الدكتور الرافعي، علما أن الوزير المخلوع، إدريس البصري، كان قد رغب في التنكيل به عندما علم بمساعدته لأبناء الجنرال أوفقير بعد إلقاء القبض عليهم بمدينة طنجة من حيث لا يدري، إلا أن الملك الراحل الحسن الثاني أثناه على ذلك قائلا له: "لا تمسّوه بسوء.. الأولى أن يبتهج المرء لأنه لا يزال يعاين رجالا مثله في المغرب.."


في الوقت الذي كان عبد اللطيف يكتشف عالم الحرية، حلقت أربع طائرات مروحية فوق زنازن "بير جديد".. ولج الجنرال حسني بنسليمان محاطا بضباطه فضاء "إقبار" عائلة الجنرال أوفقير.. ثم وصل مدير "الديستي" آنذاك، عبد العزيز علابوش مرفوقا بمعاونيه واليوسفي القدوري، القائم وقتئذ على معتقل درب مولاي الشريف سيئ السمعة وفرقته (زوار الليل).. طوقت فرقة الدرك الملكي المزرعة الحاجبة لسجن أسرة أوفقير واستقرت المدرعات في كل جانب.. أعتقل الحراس ورئيسهم و حطّ الوافدون الرحال في زنزانة البنات بعد تكديس ما تبقى من العائلة بزنزانة الوالدة، وبدأ الاستنطاق


بينما التحقيق متواصل بـ "بير جديد"، كان عبد اللطيف وإخوته على متن سيارتي أجرة بالعاصمة، بحي السويسي، حيث كانت تقطن عائلة الجنرال أيام عزّها.. آنذاك لم تقو مليكة على مقاومة الرغبة في توقيف "الطاكسي الصغير" بشارع الأميرات لتدل شقيقها عبد اللطيف على جدران بيتهم الذي لم يبق منه سوى أرض خالية محاطة بسور منخفض.. إذ كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أمر بهدمه بعد إقبار أفراد العائلة أحياء، وتم ذلك في غضون سنة 1986، أي سنة واحدة قبل عملية الهروب.. تحمّلت مليكة الصدمة بصمت ولم ترد أن تكشف لعبد اللطيف الحقيقة، إذ قالت إنها قد ضلّت الطريق ولم تعد تذكر موقع المنزل ترعرعت فيه 

 

 

  scan265-copie.jpg

 

 

 

نشوة الانتصار في قلب الجحيم

 

عندما كان أبناؤها بطنجة، كانت فاطمة الشنا، تخضع للتحقيق وقائد الحرس يُعذب غير بعيد عنها، وتسمعه يصرخ قائلا :"لماذا لا تذهبون لإحضار العقيد بنعيش والجنرال مولاي حفيظ.. لم أفعل إلا تنفيذ أوامرهما.."


آنذاك طمأن اليوسفي القدوري وعبد العزيز علابوش أرملة أوفقير قائلين:"إنه لا ينال سوى ما يستحقه، لقد أساء إليكم كثيرا..."، فردت عليهما :"إذا كنتما تتصوران أنه يسرني أن أرى هذا المسكين يتألم وما هو سوى مجرد منفذ للأوامر وكبش فداء.. فأنا أتأسف عليكما.. لا يمكن لأحد مهما كان ساذجا أن يصدق هذا.. تريدان إيهامي بأنكما تعذبانه بسبب قساوة معاملته لنا، في حين أنكما لن تغفرا له هروب الأولاد.. أوقفا هذه المهزلة..."


قبيل الاعتقال بفندق "ميراج" بطنجة" كان عبد اللطيف يشرب كوبا من "الميلك شيك"، أنهاه ثم قال لشقيقه رؤوف:" أريد كوبا آخر، ربما لن أتمكن من شربه ثانية.." وما أن أكمل كلامه حتى تم تطويق الفندق وعج بأشخاص مسلحين


وبعد لحظة بدأت المهزلة الوقحة.. قال جسوس، والي أمن طنجة آنذاك، لأبناء أوفقير بعد وضع اليد عليهم:" الذين فعلوا ذلك لا يحبون بلدهم ولا ملكهم.. يمكن مهاجمة رجال يتحملون مسؤولياتهم، أما مهاجمة أطفال، فهذا لا بد أن يدينه كل كائن حي عاقل [...] فمنذ أن علم صاحب الجلالة بالأمر أصبحتم في حمايته، لن يعود بوسع مولاي حفيظ ولا بنعيش إيذاءكم [...] أنتم الآن "ضيوف" سيدنا وستعاملون على هذا الأساس"


علم جسوس أن عبد اللطيف لم يذق طعم السمك الطري منذ سن الثالثة، فقدّم لأبناء أوفقير الفارين طبقا كبيرا من "البايا" (الأكلة الإسبانية المشهورة) مزخرفا بسخاء بثمار البحر وقال لهم :" هذا الطبق غير معد في مطعم ولن تدفع الدولة قيمته، لقد أعددته في بيتي ويسعدني أن تقبلوه"


منذ خروج عائلة أوفقير من قبر "بير جديد" ظلت لازمة تكرر على لسان المسؤولين المضطلعين بمهمة مراقبتهم وحراستهم اللصيقة، "أنتم ضيوف صاحب الجلالة الآن"، فكانت بداية الضيافة بمعتقل درب مولاي الشريف السري ثم بفيلا بضواحي مراكش مطوقة بالحراس بقيادة عقيد من "السيمي" الذي أسر لأحد أبناء الجنرال المحتجزين قائلا:" لم أر الملك قط، إلا في التلفزة، ولم أكلف سوى بالأمن العام والأحداث الرسمية والرياضية.. دُعيت إلى القصر الملكي بمراكش.. استقبلني الملك الحسن الثاني لمدة قصيرة بحضور إدريس البصري وقال لي :"أسلمك زوجة أوفقير وأولاده. حينما سأطلبهم منك، أريدهم جميعا حاضرين، إن نقص أحدهم سأعقلك من أهدابك.."، وأضاف :" إذ ما حدث وهرب أحدكم، الأمر سهل جدا، سأنتحر بدل أن أتحمل تبعات ذلك"

 

عبد اللطيف والملك

 

 

في مدخل محطة القطار بالعاصمة الرباط، مرّ الإخوان أوفقير بصورة كبيرة للملك الراحل الحسن الثاني.. لا إراديا توقف عبد اللطيف لبرهة، وقال لشقيقه رؤوف "هذا الذي كنا نكاتبه ولا يجيبنا".

كانت تربط أسرة أوفير بالعائلة الملكية عرى صداقة قوية. وكان الجنرال وزوجته الوحيدين المسموح لهما بولوج القصر الملكي في أي وقت وحين والتجول فيه بكل حرية ودون استئذان، وذلك منذ عهد الملك الراحل محمد الخامس، عندما كان محمد أوفقير قائد الحرس الملكي


إن البلاط كان فضاء أليفا لفاطمة الشنا.. اعتادت على ارتياده منذ كانت طفلة مقيمة عند إحدى شقيقات الملك الراحل محمد الخامس بمدينة مكناس قبل زواج أبيها. ولقد رآها محمد الخامس عندما كان يأتي لزيارة شقيقته، فاستوقفه جمال الطفلة البالغة من العمر ثماني سنوات، وسرعان ما شعر نحوها بعاطفة وإعجاب لم ينطفئ أوارها مع مرور الوقت


تعسر الفهم على عبد اللطيف بخصوص إصرار الملك الرحل الحسن الثاني على الإساءة لعائلته والنيل منها. وبدت له الصورة متناقضة كلما حكت له أمه علاقاتها الوطيدة مع الملك حينما كان وليا للعهد، وكيف كانت تُعتبر من أفراد العائلة الملكية بحكم قربها منها.


استعصى الفهم على عبد اللطيف عندما روت له والدته أنها كانت واحدة من الأشخاص القلائل جدا الذين كان الملك الراحل الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) يقترض منها بعد الأموال، سيما عندما كانت تربطه علاقة مع الممثلة الفرنسية "إيتشيكا شورو" التي كان وقتئذ يغمرها بالهدايا.. ومن النوازل التي أسرت بها فاطمة الشنا لابنها بهذا الخصوص، أن ذات يوم رفض الملك الراحل محمد الخامس ـ وهو العاهل غير وافر الغنى وقتئذ ـ دفع فاتورة في اسم نجله ولي العهد تركها عند بائع مجوهرات بباريس، فالتجأ مولاي الحسن لأمه.. :" آنذاك ـ تقول فاطمة الشنا لابنها عبد اللطيف ـ كان الحسن الثاني يمتاز بخصال.. على رأسها استذكار الذين ساعدوه في أوقات الشدة"


وحسب المحامي "كيجمان" كان الملك الراحل الحسن الثاني قد عبر له بأنه تأثر للظروف الفظيعة التي خضع لها عبد اللطيف وإخوانه الذين كانوا بمثابة أطفاله، ولا سيما ملكية التي رباها كابنته.. كما أسر له أنه لا يريد أن تذهب عائلة الجنرال إلى فرنسا موضحا أنه لا يرى أي مانع من أن تذهب للإقامة بإسرائيل.. لكنه في الأخير قبل كندا.


وبعد أن أبلغ المحامي عائلة أوفقير بالأمر، طلب منهم توجيه كتاب للملك يتعهدون فيه بالصمت..:"نتعهد بألا ندلي بأي تصريح علني قد يضر بمصالح بلدنا ويسيء إلى صورة وطن وملك هما وطننا وملكنا"، هذا مما ورد في الكتاب


وبعد التماطل صرح المحامي "كيجمان"، لجريدة "لوموند " الفرنسية :"[..] لا يمكن اعتقال أطفال بهذا الصغر ومن الضروري للاستجابة  لروح العدالة والإنسانية [...] ألتمس من جلالتكم إجراءا رحيما حيال أولا الجنرال أوفقير، إجراء يحق لكم وحدكم تحديد مداه"


لم يكن الجنرال محمد أوفقير يظن أن الملك سيهاجم أطفاله، ولو كان لديه أدنى شك لما منعهم من مغادرة المغرب في أخر مكالمة معهم


 

حينما كان عبد اللطيف بين الموت والحياة 

 

لم تكن محاولة الانتحار التي قدم عليها عبد اللطيف سبيلا للتخلص من واقعه المزري   ,وهو الطفل الذي أصبح شابا دون أن يعلم أي شيء عن الحياة و لم يعاين مجراها خارج فضاءات الاحتجاز التعسفي تاركا إخوانه ووالدته في الجحيم بعد، وإنما تضحية منه لمحاولة إنقادهم


   في منتصف نونبر 1986، بعد أكثر من 5100 يوم من الحجز ألقسري ، عندما انصب غضب البلاد من جديد ، قررت عائلة اوفقير الدخول في إضراب عن الطعام . حاول الكبار إقناع الصغار بعدم المشاركة في الإضراب لكن دون جدوى. تشبث عبد اللطيف النحيف النحيل الهزيل بخوض الإضراب إلا انه في نهاية الأسبوع  الأول من الامتناع عن الأكل أرغمته العائلة على توقيف الإمساك عن الطعام 


   حاول الحراس خداعهم بالوعود بخصوص تحسين وضعية الاعتقال ، ومنحت لهم ورقة وقلم لمكاتبة الملك الحسن الثاني. و فعلا حرروا رسالة رفعت على وجه السرعة إلى الديوان الملكي، لكن استمروا في إضرابهم عن الطعام


   وبعد عشرين يوما من الجوع الاختياري، أبلغهم رئيس الحراس بتوصله بأوامر من الرباط ردا على رسالتهم  مفادها دفن أول من يموت منهم في باحة المعتقل. وقام الحراس تحت إمرة قائدهم بحفر قبر نموذجي بساحة السجن لاستقبال أول من ستوافيه المنية منهم


   بعد 44 يوما من الإضراب عن الطعام تأكد عبد اللطيف، أمه و أشقائه أن موتهم جميعا لن يشكل أي إحراج للبلاط ما داموا قد أصبحوا في عداد المنسيين، الموتى - الأحياء. رغم ذلك، عندما أوقفوا الإضراب في 27 دجنبر 1986 اجمعوا على قرار رهيب    :   لابد أن يضحي أحدهم بحياته و بنفسه لوضع القائمين على الأمور أمام الأمر الواقع. أنداك كانت قد حلت لعنة البلاط على ضيوف معتقل" بير جديد"و حرموا من كل شيء رغم أنه أقل من قليل


   في ليلة مظلمة قطعت فاطمة الشنا شرايينها بعد أن ودعت أطفالها ، و ساعدها عبد اللطيف و هو يعاين فظاعة لحظة الانتحار بشجاعة قل من يتصرف بها في مثل هذه الظروف


   يقول شقيقه رؤوف   :   "إن عبد اللطيف عايش تلك الفظاعة بشجاعة فائقة ...  بيدين ملطختين بدم أمه، انحنى شاحبا على حفرة المجاري التي تفصله عن زنزانة شقيقاته ليخبرهم أن والدته مازالت تتحرك ..."


   نزفت فاطمة ثم أغمي عليها و تبعها طفلها الواهن مغميا عنه، لم يتحمل مشهد أمه تحتضر وسط بركة من دمائها... جاء الحراس... عاينوا المنظر، ثم ذهبوا دون تحريك ساكنا أمام الفاجعة... عادوا على أعقابهم لعرض الأمر على الرباط... وكان الجواب بكل برودة وصلافة: "أذلوهم ... وأوّل من يموت منهم ادفنوه في محله"


   استفاق عبد اللطيف ..اعتذر لإخوته لضعفه و هونه...طلبت منه شقيقته أن يلفّ معصم والدته بضمادة وأن يحاول إرغامها على الشرب... سهر الطفل على والدته بين الحياة و الموت وحيدا في كنف عتمة الزنزانة والخوف


   في صباح اليوم الموالي أخبر رؤوف أمه و إخوانه أن دوره في الانتحار، التضحية بالنفس، قد حل وطلب منهم ألا يذرفوا دمعة أمام الجلادين

 


 

تململ ضمير السجّان بوعزة

 

   لم يشعر عبد اللطيف، على امتداد 19سنة ومنذ كان طفلا لا يتجاوز عمره الثالثة، أنه أمضى نهار أو ليلة دون سجانين و مراقبة لصيقة وسبّ وإهانة ووعد ووعيد


   ذات يوم نفذ صبر الحارس بوعزة  و تململ ضميره ... ودون سابق إنذار صرخ قائلا   :  "عملت أربعين عاما في السجون، غير أنني كنت أتعامل مع رجال... أما الآن فرضوا علي أسوا عقاب... أن اقتل أمّا بمعية أطفالها دون شفقة ولا رحمة..."


   تأسف بوعزة عن إنهاء مشواره العسكري الطويل باضطراره للتنكيل بأطفال دون ذنب اقترفوه 

     بوعزة هذا أول عسكري خاطب عائلة أوفقير كاشفا لها مآلها المظلم... بعد وصول السيارة الأمريكية إلى ثكنة أسا، سبقت الأم بمعية أطفالها و مرافقاتهم إلى مبنى تحت الأرض، وأول من واجهوه رجل طاعن في السن... بوعزة الذ

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article